الأربعاء، 16 سبتمبر 2009

« الفلامنكو»..فن تعبير المضطهدين

دمشق-علياء تركي الربيعو
«إن هذه الأصوات العميقة هي الغموض، وهي الجذور الضاربة في التربة الخصبة التي نعرفها جميعنا، ونجهلها جميعا، وعلى الرغم من ذلك نأخذ منها ماهو حقيقي في الفن» هذا ما يقوله الشاعر الاسباني المعروف فيدريكو غارسيا لوركا عن فن الفلامنكو.
هذا الفن الذي يعود الى عصور قديمة قدمته فرقة تاتيانا غاريدو من اسبانيا على صالة مسرح الدراما في دار الاوبرا السورية لمدة يومين، العرض الذي حمل عنوان «نار ورمل» عرض فيه الاسبان رقصات الفلامنكو الجميلة، براقصين رشيقين استطاعا أن يهزا خشبة المسرح، ما انعكس على جمهور الحفل الذي تفاعل تفاعلا شديدا مع الراقصين.
تم تقديم خمس لوحات فنية خلال العرض، تنوعت بين رقص وغناء وعزف وبين مواضيع الحب والامل والثورة والظلم، الظلم الذي عاد ليذكرنا بأسباب نشأة فن الفلامنكو، الذي ولد كتعبير للمضطهدين والمسحوقين..



وفي سنة 1492 قام الملك فرنارد وملكته إيزابيل بسن قانون جديد ينص على أن كل سكان مملكة إسبانيا يجب أن يكونوا
من أفراد الجالية المسيحية الكاثوليكية.
وبالتالي على الإسلام واليهود والغجر والمسيحيين غير الكاثوليك التحول للدين الكاثوليكي. وكانت عقوبة الرفض للكاثوليكية الرمى بالطلق الناري حتى الموت.
الكثير من الفئات المضطهدين قد هربوا إلى مدينة غرناطة وكانت في وقتها المدينة الوحيدة التى مازالت تحت سيطرة المسلمين.
وهناك خلف أسوار مدينة غرناطة اجتمع كل هؤلاء في تخوف وانتظار هجوم الملك فرنارد وملكته
إيزابيل، مدركين كون الهجوم
آتياً، آجلاً أم عاجلاً، وفي ظل تلك الأجواء المعتمة اجتمعت تلك الفئات في التعبير عن مآسيهم وحنينهم إلى أيام أحسن، ومستقبل أفضل، وهكذا ولد فن الفلامنكو.
قدم العرض العناصر الاربعة التي يتكون منها فن الفلامنكو وهي الغناء والرقص والعزف والتصفيق والتي تطلبت جهدا وتركيزا عاليا من الراقصين مع ايقاع النغمات الموسيقية.
فلاحون.. بلا أرض
يرجع البعض مصطلح فلامنكو إلى (fallah mengo = فلاح منجو) وهم الفلاحون الموريسكيون الذين اصبحوا بلا أرض، فاندمجوا مع الغجر وأسسوا ما يسمى بالفلامنكو كمظهر من مظاهر الألم التي يشعر بها الناس بعد إبادة ثقافتهم.
البعض الآخر يربط اسم هذه الموسيقى بطائر النحام الوردي.الا أن الكثيرين يرون بأن كلمة فلامنكو كلمة تضمن معنيين، الأول وهو «فلاح منكم» والثانى «فلا يحرم منكم» والاثنان جاءا نتيجة لاختلاط الشعب الإسبانى بالعرب والأندلسيين والذين تأثروا بهم كثيراً.
تميزت مغنية العرض «جوزيفا هيريديا» بصوت قوي ملأ المسرح، استطاعت به انتزاع اعجاب الجمهور، على الرغم من غنائها باللغة الاسبانية والتي لم تكن مفهومة من قبل معظم الحاضرين، وتخلل غناءها نغمات حزينة مأساوية وصرخات تكاد تشبه العويل وهذه احدى سمات غناء الفلامنكو.
وعلى الرغم من أن الفلامنكو كان يعتبر في بداياته فنا محتقرا وغير راق لأن معظم الذين كانوا يقومون به هم الغجر الفقراء في الشوارع، مقابل القليل من المال يرميها لهم المارة. الا أنه مع الوقت أصبح الفلامنكو يعرض في المقاهي الصغيرة لتسلية الموجودين، ومن هناك انتقل للمسارح وتطورت أنماطه فيما بعد، وأصبحت ذات الطابع السعيد والأغاني السعيدة، بالإضافة للأغاني الحزينة واستطاع هذا الفن الآن أن يوجد لنفسه مكانة وشهرة عالمية في ايامنا هذه.
الفن الغجري الشعبي
في الفقرة الفنية الاولى من العرض والتي كانت بعنوان «مارتينيت» ظهر ثلاثة أشخاص يحملون العصا ليبدأوا بالنقر عليها على الارض، وتبدأ هيريديا بالغناء، لتطل راقصة الفلامنكو المشهورة «تاتيانا غاريدو» وتبدأ بالرقص على ايقاع النغمات لترينا فن الفلامنكو الغجري الشعبي الاسباني، بكل ما يحتويه من حركات وتصفيق، تاتيانا التي تعد من أهم راقصات الفلامنكو هذه الايام والتي ورثت الموهبة من أمها «مارجيليا» أسطورة الفلامنكو الحية، اعتمدت في عرضها الحالي استخداما ثوريا للتقنية من خلال اسقاطات رقمية في الخلفية، اذ ظهرت الراقصة في الفقرة الثانية والتي تضمنت عزف الغيتار للموسيقي «روبن مارتينز» من خلف ستار وهي ترقص على نغمة الايقاع من خلال تسليط الضوء عليها بطريقة تقنية جميلة وكأنها احدى حكايا الف ليلة وليلة، جاءت فيه شهرزادنا وهي تاتيانا لتلقي علينا حكاياتها ولكن عن طريق الرقص وبطريقة حداثوية.
رشاقة تثير دهشة الجمهور
في الفقرة الثالثة أطل شاب من وسط الظلام وأثار دهشة الجمهور برشاقته، وهو الراقص «خافيير سيرانو»، الذي رقص على صوت هيريديا بكل تناغم بحذائه القوي وبدلته الرسمية، التي لم تعقه عن الرقص وكأنها دعوة للرقص بحرية من دون عوائق.
عبر الراقصان عن المشاعر في الأغاني التي صدحت بها هيريديا من خلال حركات جسديهما ومن تحكمها بسرعة الإيقاع عن طريق سرعة خطواتهما ورقصهما ليس فقط على رؤوس الاصابع، ولكن على كعب القدمين، مع تحريك كامل الجسد واليدين بحركات متوازنة، فراقص الفلامنكو لا يرقص فحسب بل هو الذي يتحكم بالإيقاع ويصدر جزءا مهما من الموسيقى برجله أثناء الرقص وهنا تكمن صعوبة رقص الفلامنكو.
استطاع الراقصان استغلال كل زاوية في المسرح واستطاعا ان يهزا الخشبة بمهارتهما، الا أن الملفت بأنك ما أن تشعر بأن الرقصة انتهت حتى يفاجئك الراقصان ببداية جديدة وكأنها سلسلة من الرقصات التي لاتعرف النهاية مطلقا، وهنا تكمن جمالية رقص الفلامنكو، في انه لا توجد نهاية لشيء بل هناك بداية دائما لكل شيء، وهذا يعبر عن خلفية هذا الفن الذي انشئ لاعطاء الامل في كل شيء جديد.
لا مكان شاغرا.. في الحفل
المثير للانتباه هو الحضور الكثيف للجمهور السوري اذ لم يكن هناك مكان أو مقعد شاغر في الحفل، بالاضافة الى أن الجمهور وقف في نهاية الحفل وقام بالتصفيق الحار للفرقة، ما استدعى الفرقة للعودة الى المسرح وتقديم فقرة جديدة للجمهور المتحمس للعرض، الامر الذي أثار القليل من الاستغراب، فالثقافة الإسبانية لم تكن عائقا امام تقبل الجمهور السوري لها، حتى انك لتحسب ان أم كلثوم هي التي كانت تغني بدلا من هيريديا والقصبجي يعزف بدلا من مارتينيز.
ولكن على الرغم من أن بروشور العرض يشير إلى أن الفلامنكو تعود أصوله الى الموروث العائد للوجود العربي في الأندلس، الا ان الشخص ما يلبث أن يدرك بعد حضوره للعرض بأن الثقافة العربية
بعيدة كل البعد عن هذا النوع من الرقص والغناء الغجري على الرغم من التزامه وتقيده بقواعد وأصول معينة، لذا يجب عدم نسيان أن الحضارة الاسبانية هي خليط مجموعة ثقافات عديدة وليست العربية فقط، واذا كنا نتشارك مع الاسبان بصفة فهي كما اعتقد حرارة الروح الذي استطعنا تلمسها بالشعب الاسباني، من مغنين وراقصين وحضور أيضا.
الا أننا لا نستطيع ان ننكر بان العرض كان جميلا وأن الجمهور السوري الذي يعاصر هذا الفن الجديد قد ابتهج وهذا ما نجحت به دار الاوبرا في سوريا في أن تقدم فنونا جديدة وغريبة للجمهور السوري، فنونا لم يكن يستطيع أن يراها سوى عبر التلفاز

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق