الأربعاء، 16 سبتمبر 2009

تاريخ الأسطورة

الكشف عن مناطق في العقل البشري

دمشق-علياء تركي الربيعو

تستعمل كلمة الأسطورة اليوم غالبا لوصف شيء غير صحيح وغير واقعي. فالسياسي حين يتهم بوقوع زلات وعثرات يقول عنها بأنها أسطورة لم تحدث ابدا، وعندما نسمع عن آلهة تمشي على الارض، وعن اموات يخرجون من قبورهم، أو عن انشقاق البحر ليدع شعبا مختارا يهرب من عدوه، ترانا ننبذ هذه القصص معللين فعلنا بأنها أمور لا تصدّق
ولا يمكن البرهان على صحتها. فلقد بلورنا مع بداية القرن الثامن عشر رؤية علمية في فهم التاريخ، اصبحنا معها مهتمين فقط بما حصل بالفعل وهذا على خلاف العالم ما قبل الحديث، حيث كان اهتمام الناس عند كتابتهم للماضي، منصبا على معنى الحادثة ودلالاتها لا على حقيقة وقوعها. فالاسطورة بمعنى
ما تروي قصة حدث حصل في زمان ما، وهي تجعله ممكن الحصول في كل الازمنة. كما تساعدنا احيانا في الاجابة عما وراء التدافع الفوضوي للاحداث العشوائية، وفي تبصر جوهر الحقيقة


.

ضمن هذا السياق ترى الكاتبة الاميركية كارين ارمسترونغ الباحثة في الاديان وانظمة الاعتقاد في العالم في كتابها الجديد «تاريخ الاسطورة» (الدار العربية للعلوم، 2008 ) ان البشر كانوا دائما صناع اسطورة.
فقد اكتشف علماء الآثار بعد التنقيب عن قبور النيندرثال، وهي فصيلة بشرية انتشرت في أوروبا ووسط آسيا وغربها حوالي 350000 قبل الميلاد، اكتشفوا احتواءها على اسلحة وادوات وعظام لحيوانات مضحّى بها، تدل جميعها على وجود معتقد لديهم بعالم أخروي يشبه عالمهم، فمع تبلور وعي لديهم بحقيقة فنائهم، ابتكروا حكاية مضادة تمكنهم من التكيف مع هذا الوعي الجديد، ولذلك حين كان يدفن النيندرثاليون رفاقهم الموتى فإنه كان يتم ذلك باهتمام وعناية ملحوظتين، مما يعني انهم كانوا يعتقدون بأن العالم المادي والمرئي ليس الحقيقة الوحيدة.
وبرأي ارمسترونغ فإن البشر تميزوا ومنذ زمن مبكر جدا، بقدرتهم على حيازة افكار تتجاوز تجاربهم اليومية، وذلك من خلال قدرتنا على توليد افكار وتجارب لا يمكن تفسيرها تفسيرا منطقيا. وعلى الرغم من ان هذه الاساطير هي من انتاج مملكة الخيال، الا انه ما يزال هذا الخيال هو الذي مكن من اخراج معارف جديدة، وهو الذي مكننا من السفر الى الفضاء الخارجي ومن السير على القمر، وهي انجازات لم تكن ممكنة في السابق، الا في عالم الاسطورة، ولذلك فإن الاسطورة والعلم يوسعان معا مدى الوجود البشري، وبالتالي فإن الميثولوجيا ليست خروجا من هذا العالم، بل تتعلق بقدرتنا على العيش فيه بكثافة.
واما مظاهر الاسطورة فهي عديدة منها ان الميثولوجيا لا تكف عن ممارسة الطقوس، فالعديد من الاساطير لا معنى لها خارج المشهد الطقسي الذي يبث فيها الحياة، وان قصة الاسطورة لا تروى لغرض الرواية فقط، بل هدفها ان تدلنا على ما يجب علينا فعله، فنجد مثلا ان جثة الميت يتم وضعها في قبور النيندرثال على هيئة الجنين، كما لو انه في وضعية ولادة جديدة وان على الميت ان يأخذ خطوة الولادة التالية بنفسه، هذا بالاضافة الى انها تتكلم عن عالم مواز لعالمنا وبطريقة داعمة لوجودنا والايمان بهذه الحقيقة اللامرئية والاكثر قوة التي تسمى احيانا بعالم الآلهة، هو فكرة الميثولوجيا الاساسية.
وبرأي الكاتبة فإن تاريخ الاسطورة يمكن تقسيمه الى خمس مراحل اساسية:
أولاها: الفترة البالياليثية وهي المرحلة التي لم يطور اناس تلك الحقبة فكرة الزراعة، ولم يقدروا على العناية بطعامهم بل اعتمدوا بالكامل على صيد الطعام وتجميعه.
وقد تميزت هذه الفترة بالتقديس الكبير للحيوانات التي يشعر الانسان انه مرغم على قتلها، حيث لاحظ الانثربولوجيون ان رجال الطبيعة المعاصرة يشيرون بنحو دائم الى الحيوانات والطيور كأنها بشر مثلهم، ويروون قصصا عن بشر اصبحوا حيوانات وبالعكس، فأن تقتل حيوانا يعني أن تقتل صديقا، لذلك كان يشعر القبلي بالذنب بعد كل رحلة صيد ناجحة، ولمواجهة هذه المعضلة التي لا تحتمل، ابتكروا أساطير وشعائر تمكنهم من التصالح مع جريمة قتلهم لنظرائهم في الخلق.
كما كان على الصياد قبل الذهاب في رحلة الصيد ان يمتنع عن ممارسة الجنس ويبقي نفسه في حالة نقاء روحي.
وبالتالي فإن أولى الانبثاقات الكبرى للميثولوجيا كانت في الزمن الذي تحول فيه «الإنسان الصياد» الى «الانسان القاتل»، اي حين وجد الانسان صعوبة في قبول اوضاع وجوده في عالم عنيف. فالميثولوجيا غالبا ما تزدهر من توتر او قلق عميق حول مشاكل عملية وجوهرية، لا يمكن ازاحتها او تخففيها بحجج منطقية صرفة.
اما المرحلة الثانية فهي الفترة النثوليثية، والتي عرفت بمثيولوجيا المزارعين، وقد تميزت هذه الفترة باختراع البشر للزراعة، ولم يعد الصيد مصدر طعامهم الرئيسي، لاكتشافهم الواضح ان الارض مصدر انماء لا ينفد فيها الطعام، وقد كانت الزراعة نتاجا للوغوس (العقل)، الا انها وعلى خلاف الثورة التقنية في ايامنا الحالية لم تكن في نظر الاوائل مشروعا دنيويا صافيا، بل كانت بمثابة صحوة روحية عظيمة وهبت الناس فهما جديدا بالكامل عن انفسهم وعالمهم.
ومثلما كان اناس الفترة الباليوليثية يعتبرون الصيد عملا مقدسا، فان عمل الزراعة كان ايضا مقدسا. وحين شاهد المزارعون نزول البذور الى اعماق الارض ولاحظوا اختراقها للظلمات لتجلب بشكل مدهش اشكال حياة جديدة، ادركوا حينها ان هناك قوة خفية تعمل، واخذوا ينظرون الى المحصول على انه ثمرة زواج مقدس. فالتربة هي الانثى والبذور هي السائل المنوي الالهي، ولذلك كان اعتياديا لدى الرجال والنساء، ان يمارسا الجنس معا بطريقة طقوسية عندما يزرعون محاصيلهم إذ من شأن ذلك أن ينشط طاقات التربة الخلاقة. وقد بين الإنجيل (العهد القديم) ان هذا النوع من الطقوسية الجنسية كان يمارس عند بني اسرائيل القديمة في القرن السادس قبل الميلاد وحتى مجيء حملة بعض الانبياء، لكن ما تجب الاشارة اليه هو ان في هذه المرحلة لم يكن ينظر الى الارض كأنثى ومن المحتمل ان يكون لأمومة المرأة في الحياة العائلية دور في اتخاذ الارض لاحقا خاصية الانثى المربية. كما بتنا نلاحظ انه في الاساطير البطولية القديمة التي يعود زمنها الى فترة الصيد عادة ما كان من يقدم على رحلة صيد خطرة من اجل ان يجلب المساعدة لشعبه بطلا ذكرا، الا انه وبعد الفترة النيوليثية اصبح الذكور بلا حيلة وفاقدي الفعالية واصبحت الآلهة الانثى هي التي تهيمن في الارض وتتصارع مع الموت وتجلب الغذاء للجنس البشري واصبحت الام الارض رمز البطولة الانثوية كما حدث مع اسطورة الآلهة أنات أخت وزوج بعل إله الريح والمطر والذي يؤكل كما تروي لنا الاسطورة من قبل «إله موت» الهة الموت والعقم والجفاف، مما يجبر أنات الى بحثها عن موت وعندما تجده تشقه بمنجل طقسي الى نصفين، وتعيد بعل الى الحياة.
اما المرحلة الثالثة فقد بدأت عندما خطت البشرية خطوة كبيرة الى الامام وذلك من خلال بنائها المدن، كما في بلاد ما بين النهرين ومصر، ولاحقا في الصين وكريت، حيث يمكننا التعرف على الاستجابة الاولى لتحدي التحضر التي كانت في بلاد الخصب في الميثولوجيا التي تحتفل بحياة المدينة.
فلقد كانت تجربة الحضارة امرا رائعا وهشا معا، فالمدينة تزدهر وتنتعش بسرعة دراماتيكية ثم سرعان ما تنحدر وتزول بسرعة كما ان تعدد المدن كان يجلب الحروب والمذابح والدمار ولذلك كانت اساطير الحضر تصور الصراع اللامتناهي بين النظام والفوضى.
وعلى الرغم من ان البعض نظر الى الحضارة ككارثة كما فعل الكتاب الانجيليون الذي رأوا انها علامة على انفصال الانسان عن الله الذي حصل عقب طرد ادم من جنة عدن.
نجد ان شعوب بلاد ما بين النهرين رأت في المدينة مكانا للاتصال بالآلهة، فقد كانت المدينة تقريبا اعادة خلق للجنة المفقودة وكانت كل مدنية بمثابة مكان مقدس.
اما المرحلة الرابعة فقد بدأت مع حلول القرن الثامن قبل الميلاد، اذ اصبح الاضطراب اكثر انتشارا حيث ظهرت سلسلة انبياء وحكماء ذوي تأثير كبير، شرعوا في البحث عن حل جديد وقد وصف الفيلسوف الالماني كارل جاسبر هذه الفترة بالعصر المحوري لأنها برهنت على دورها المحوري في التطور الروحي للانسانية، واستمرت الرؤى المنتجة فيها مصدر تنشئة للرجال والنساء حتى يومنا هذا.
ففي اليونان مثلا تم اطلاق العصر المحوري من خلال اللوغوس (العقل) الذي يعمل بمستوى ذهني مختلف عن الاسطورة، لكن اهتمام الناس كان مازال اهتماما ضعيفا لذلك طور الاثينيون نوعا جديدا من الطقوس الذي هو التراجيديا التي اعادت تمثيل ادوار الاساطير القديمة على هيئة احتفالات دينية مع اخضاعها هذه المرة للوعي النقدي، ورغم ما احدثته التراجيديا من تحطيم للتقاليد والاصنام القديمة، الا ان توزيع الادوار فيها كان يتم وفق الطقوس التقليدية وكأي طقس ديني.
اما المرحلة الاخيرة فهي مرحلة التحول الغربي الكبير (1500-2000م) حيث ولدت الحداثة الغربية الجديدة من رحم اللوغوس، وليستند هذا المولود الى روح العلمية، ولتصل الحدة المتبادلة بين اللوغوس والاسطورة الى ذروتها في مطلع القرن التاسع عشر من خلال اعتبار الدين امرا مضرا وبأنه يجعل الناس تغترب عن انسانيتها، وما هو الا عارض من عوارض المجتمعات المريضة.
اخيرا يمكن القول ان اغترابنا المعاصر عن الاسطورة غير مسبوق، اذ كانت الميثولوجيا في العالم ما قبل الحديث امرا لا يمكن الاستغناء عنه، لا لأنها ساعدت الناس على جعل معنى لحياتهم فقط، بل لانها كشفت عن مناطق في العقل البشري كان يتعذر الوصول اليها لولاها، لذلك نجد ان فرويد ويونغ عندما شرعا في تصميم البحث المعاصر حول النفس اتجها تلقائيا نحو المثيولوجيا التقليدية لشرح تصوراتهما

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق